كان أهلُ حِمْصَ شديدي التذَمّرِ مِنْ وُلاتهم كثيري الشَّكْوى منهم فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً وأحْصَوْا له ذُنُوباَ و رَفَعوا أمْرَه إلى خليفةِ المسلمين وتَمَنَّوا عليه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه ، فَعزَمَ الفاروقُ رِضْوانُ اللّهِ عليه أن يَبْعَثَ إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعناً ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزاً (عيبا) فَنَثَرَ كِنَانَةَرجاله بَيْنَ يَدَيْه وعَجَمَ (اختبرها) عِيدانها عوداً عوداً .
فعزم الفروق أن يبعث الي اهل حمص بوال لا يجدون فيه مطعنا ولا يرون في سيرته مغمزا. فدعا عمير سعد وعهد اليه بولاية حمص.
بَلَغ عُمَيْرٌ حِمْصَ فدعا النَّاسَ إلى صلاةٍ جامِعَةٍ ولما قُضِيَتِ الصَّلاةُ خَطَبَ النَّاسَ فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه وصلى على نَبِيِّه محمد ثم قال : (أيها الناسُ إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وباث وَثِيقٌ وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعاً ما اشْتَدَّ السُّلْطان ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضرباً بالسَّوْط ولا خَملاً بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذاً بالحَقِّ) ثم انْصرَفَ إلى عَمَلِه لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرَةِ .
قَضَى عُمَيْرُ بن سَعْدٍ حَوْلاً كامِلاً في حِمْصَ لم يَكْتُبْ خِلاله لأمير المؤمنين كِتاباً ولمْ يَبْعَثْ إلى بيتِ مالِ المُسْلمينَ من الفَيءِ (الخراج) دِرْهماً ولا ديناراً ، فأخَذَتِ الشُّكُوكُ تساور عُمَرَ إذْ كانَ شديدَ الخَشْيَةِ على وُلاتِه من فِتْنَةِ الإمارَة ، فلا مَعْصومَ عِنْدَهُ غَيْرُ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم .
فقال لِكَـاتِبِه : اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وقُلْ له : إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين ، تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ رضى اللّه عنـه وعن عمير ، فأخَذَ جِرَابَ زاده وَحَمَلَ على عاتِقِه قَصعَتَه ووعاءَ وضوئه وأمْسَك بيده حَرْبَتَه وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا مشياً على قَدَمَيه إلى المدينة فما كادَ يَبْلُغ عمَيرٌ المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه وهزُل جِسْمُه وطال شَعْرُه وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ(أثار مشقة) السَّفَرِ .
دَخَلَ عُمَيْرٌ على أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطابِ ، فَدُهِشَ الفاروق من حالَتِه وقال : ما بكَ يا عُمَيْر؟ فقال : ما بي من شيءٍ يا أمير المؤمنين فأنا صَحيحٌ مُعافًى بحمد اللّه أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها ، فقال : وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالاً لِبـيْتِ مالِ المُسْلِمين) .
فقال : معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي ، ثم إنَّ الدنيا كُلَّها يا أميرَ المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي هذا وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها ، فقال عمر : وهل جئت ماشياً؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال : أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟ فقال : هم لم يعطوني وأنا لم أطلب منهم .
فقال : وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟ فقال : لم آتِ بِشيءٍ ، فقال : ولم؟ فقال : لما وَصَلْتُ إلى حِمْصَ؟ جَمعْتُ صلحاء أهلها ووليتم جمْعَ فَيْئهم ، فكانوا كُلما جمعوا شيئاً منه؟ استشَرْتُهم في أمره ووضعته في مواضعه وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم .
فقال عمر لكاتبه : جَدِّد عهداً لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص فقال عمير : هيهات فإن ذلك شَيء لا أريده ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين ، ثم استأذَنَهُ بالذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه فأذنَ له ،
No comments:
Post a Comment